فصل: قال أبو حيان في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ظاهر العطف أن اذهاب الغيظ غير شفاء الصدور.
ووجه بأن الشفاء بقتل الاعداء وخزيهم واذهاب الغيظ بالنصرة عليهم أجمعين.
ولكون النصرة مدار القصد كان أثرها اذهاب الغيظ من القلب الذي هو أخص من الصدر.
وقيل: اذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله تعالى عليهم من تعذيبه أعداءهم واخزائهم ونصرته سبحانه لهم عليهم، ولعل اذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه فيكون ذكره من باب الترقي ولا يخلو عن حسن.
وقيل: إن شفاء الصدور بمجرد الوعد بالفتح واذهاب الغيظ بوقوغ الفتح نفسه وليس بشيء، وقد أنجز الله تعالى جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فالآية من المعجزات لما فيها من الأخبار بالغيب ووقوع ما أخبر عنه.
واستدل بها على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وقيل: إن أسناد التعذيب إليه سبحانه مجاز باعتبار أنه جل وعلا مكنهم منه وأقدرهم عليه.
وفي الحواشي الشهابية قيل: إن قوله سبحانه: {بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] كالصريح بأن مثل هذه الأفعال التي تصلح للباري فعل له تعالى وإنما للعبد الكسب بصرف القوى والآلات، وليس الحمل على الإسناد المجازي بمرضى عند العارف بأساليب الكلام، ولا الالزام بالاتفاق على امتناع كتب الله تعالى بأيديكم وامتناع كذب الله تعالى شأنه بألسنه الكفار بوارد لأن مجرد خلق الفعل لا يصحح إسناده إلى الخالق ما لم يصلح محلا له، وإمتناع ما ذكر للاحتراز عن شناعة العبارة إذ لا يقال: يا خالق القادورات ولا المقدر للزنا والممكن منه، ثم قال: ولا يخفى ما فيه فإنه تعالى لا يصلح محلا للقتل ولا للضرب ونجوه ما قصد بالاذلال وإنما هو خالق له، والفعل لا يسند حقيقة إلى خالقه وإن كان هو الفاعل الحقيقي للفرق بينه وبين الفاعل اللغوي إذ يقال: كتب الله تعالى بيد زيد على أنه حقيقة بلا شبهة مع أنه لا شناعة فيه لقوله سبحانه: {كتاب الله} [المجادلة: 21] فما ذكره غير مسلم. اهـ.
وأنا أقول: إن مسألة خلق الأفعال قد قضى العلماء المحققون الوطر منها فلا حاجة إلى بسط الكلام فيها، وقد تكلموا في الآية بما تكلموا لكن بقي فيها شيء وهو السر في نسبة التعذيت إليه تعالى وذكر الأيدي ولم يذكروه، ولعل ذلك في النسبة ارادة المبالغة فانه تعذيب الله تعالى القوى العزيز وإن كان بأيدي العباد وفي ذكر الأيدي إما التنصيص على أن ذلك في الدنيا لا في الآخرة وإما لتكون البشارة بالتعذيب على الوجه الأتم الذي يترتب عليه شفاء الصدور ونحوه على الوجه الأكمل إذ فرق بين تعذيب العدو بيد عدوه وتعذيبه لا بيده، ولعمري أن الأول أحلى وأوقع في النفس فافهم.
ولا يخفى ما في الآية من الانسجام حيث يخرج منها بيت كامل من الشعر {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء} ابتداء إخبار بأن بعض هؤلاء الذين أمروا بمقاتلتهم يتوب من كفره فيتوب الله تعالى عليه وقد كان كذلك حيث أسلم منهم أناس وحسن أسلامهم.
وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وعمرو بن عبيد {وَيَتُوبَ} بالنصب ورويت عن أبي عمرو ويعقوب أيضًا، واستشكلها الزجاج بأت توبة الله تعالى على من يشاء واقعة قاتلوا أو لم يقاتلوا والمنصوب في جواب الأمر مسبب عنه فلا وجه لادخال التوبة في جوابه، وقال ابن جنى: إن ذلك كقولك: إن تزرني أحسن إليك وأعطى زيدًا كذا على أن المسبب عن الزيارة جميع الأمرين لا أن كل واحد مسبب بالاستقلال، وقد قالوا بنظير ذلك في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تأخَّر} [الفتح: 1، 2] إلخ وفيه تعسف.
وقال بعضهم: إنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على البعض فإذا قاتلوا جرى قتالهم جرى التوبة من تلك الكراهية فيصير المعنى إن تقاتلوهم يعذبهم الله ويتب عليكم من كراهة قتالهم، ولا يخفى أن الظاهر أن التوبة للكفار، وذكر بعض المدققين أن دخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى لأنه يكون منصوبًا بالفاء فهو على عكس {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] وهو المسمى بعطف التوهم، ووجهه أن القتال سبب لغل شوكتهم وإزالة نخوتهم فيتسبب لذلك لتأملهم ورجوعهم عن الكفر كما كان من أبي سفيان وعكرمة وغيرهما، والتقييد بالمشيئة للاسارة إلى أنها السبب الأصلي وأن الأول سبب عادي وللتنبيه إلى أن إفضاء القتال إلى التوبة ليس كافضائه إلى البواقي؛ وزعم بعض الأجلة أن قراءة الرفع على مراعاة المعنى حيث ذكر مضارع مرفوع بعد مجزوم هو جواب الأمر ففهم منه أن المعنى ويتوب الله على من يشاء على تقدير المقابلة لما يرون من ثباتكم وضعف حالهم.
وأما على قراءة النصب فمراعاة اللفظ إذ عطف على المجزوم منصوب بتقدير نصبه وليس بشيء، والحق أنه على الرفع مستأنف كما قدمنا {والله عَلِيم} لا تخفى عليه خافية {حَكِيمٌ} لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمة ومصلحة فمتثلوا أمره عز وجل، وأيثار إظهار الاسم الجليل على الإضمار لتربية المهابة وإدخاله الروعة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وعَطْفُ فعل {ويذهب غيظ قلوبهم} على فعل {ويشف صدور قوم مؤمنين}، يؤذن باختلاف المعطوف والمعطوف عليه، ويكفي في الاختلاف بينهما اختلاف المفهومين والحالين، فيكون ذهاب غيظ القلوب مساويًا لشفاء الصدور، فيحصل تأكيد الجملة الأولى بالجملة الثانية، مع بيان متعلّق الشفاء ويجوز أن يكون الاختلاف بِالمَاصْدق مع اختلاف المفهوم، فيكون المراد بشفاء الصدور ما يحصل من المسرّة والانشراح بالنصر، والمراد بذهاب الغيظ استراحتهم من تعب الغيظ، وتحرّق الحقد.
وضمير قلوبهم عائد إلى قوم مؤمنين فهم موعودون بالأمرين: شفاء صدورهم من عدوهم، وذهاب غيظ قلوبهم على نكث الذين نكثوا عهدهم.
والغيظ: الغضب المشوب بإرادة الانتقام، وتقدّم في قوله تعالى: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} في سورة آل عمران (119).
جملة ابتدائية مستأنفة، لأنّه ابتداء كلام ليس ممّا يترتب على الأمر بالقتال، بل لذكر من لم يُقتَلوا، ولذلك جاء الفعل فيها مرفوعًا، فدلّ هذا النظم على أنّها راجعة إلى قوم آخرين، وهم المشركون الذين خانوا وغدروا، ولم يُقتلوا، بل أسلموا من قبل هذا الأمر أو بعده.
وتوبة الله عليهم: هي قبول إسلامهم أو دخولهم فيه، وفي هذا إعذار وإمهال لمن تأخّر.
وإنّما لم تفصل الجملة: للإشارة إلى أنّ مضمونها من بقية أحوال المشركين، فناسب انتظامها مع ما قبلها.
فقد تاب الله على أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسليم بن أبي عمرو (ذكر هذا الثالث القرطبي ولم أقف على اسمه في الصحابة).
والتذييل بجُملة {والله عليم حكيم} لإفادة أنّ الله يعامل الناس بما يعلم من نياتهم، وأنّه حكيم لا يأمر إلا بما فيه تحقيق الحكمة، فوجب على الناس امتثال أوامره، وأنّه يقبل توبة من تاب إليه تكثيرًا للصلاح. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}
وهكذا يرى الذين غدروا بالعهد وتعاونوا ضد أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرون انتقام الله تعالى لهم، فتشفي صدور المؤمنين ويذهب منها الغيظ. والشفاء- كما نعلم- إنما يكون من داء، والدواء ضرورة للشفاء، وكأن انتقام الله عز وجل فيه شفاء لصدور المؤمنين من كفار قريش الذين أعانوا أبناء بكر على أبناء خزاعة حلفاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعذبهم الله بأيديكم، وينصركم عليهم، ويخزيهم سبحانه وتعالى.
ونلمس أنه- سبحانه وتعالى- رغم تعذيبه لهم، وتشديد النكير عليهم، إلا أنه يفتح بابًا للتوبة، وهي مسألة لا يقدر عليها إلا رب حكيم؛ لأن الكل عبيد له؛ مؤمنهم وكافرهم، هو خالقهم، وسبحانه يغار على صنعته، فبعد أن يشتد عليهم بالعذاب والخزي، ويشفي بهذا صدور القوم المؤمنين، بعد ذلك يفتح باب التوبة، وبهذا يعطي المؤمنين قوة سماحة إيمانية، فلا يصطحبوا التعالي على هؤلاء إن جاءوا تائبين مؤمنين فيقول سبحانه وتعالى: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاءُ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 15].
أي: أنه سبحانه يعلم كل متطلبات الأحكام، ولكل أمر عنده حكمة، فالقتال أراده الله عز وجل لِيدُكَّ به جبروتهم، والتوبة حكمتها لمنع تمادي الكفار وطغيانهم في الشر؛ لأن مشروعية التوبة هي رحمة من الحق سبحانه وتعالى بخلقه، ولو لم يشرع الله التوبة لقال كل من يرتكب المعصية: ما دامت لا توجد توبة، وما دام مصيري إلى النار، فلآخذ من الدنيا ما أستطيع، وبذلك يتمادى في الظلم ويزيد في الفساد والإفساد؛ لأنه يرى أن مصيره واحد ما دامت لا توجد توبة، ولكن تشريع التوبة يجعل الظالم لا يتمادى في ظلمه، وبهذا يحمي الله المجتمع من شروره، ويجعل في نفسه الأمل في قبول الله لتوبته والطمع في أن يغفر له؛ فيتجه إلى العمل الصالح عَلَّهُ يُكفِّر عما ارتكبه من الذنوب والمعاصي؛ وفي هذا حماية للناس ومنع لانتشار الظلم والفساد.
إذن فالقتال له حكمة، والتعذيب له حكمة، والخزي له حكمة، والتوبة لها حكمة، وسبحانه وتعالى حين يعاقب، إنما يعاقب عن حكمة، وحين يقبل التوبة فهو يقبلها عن حكمة. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيتين:

{قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين}
قررت الآيات قبل هذا أفعال الكفرة المقتضية لقتالهم، والحض على القتال، وحرم الأمر بالقتال في هذه، وتعذيبهم بأيدي المؤمنين هو في الدنيا بالقتل والأسر والنهب، وهذه وعود ثبتت قلوبهم وصححت نياتهم، وخزيهم هو إهانتهم وذلهم، وينصركم يظفركم بهم، وشفاه الصدور بإعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم.
وقرأ زيد بن علي: ونشف بالنون على الالتفات، وجاء التركيب صدور قوم مؤمنين ليشمل المخاطبين وكل مؤمن، لأن ما يصيب أهل الكفر من العذاب والخزي هو شفاء لصدر كل مؤمن.
وقيل: المراد قوم معينون.
قال ابن عباس: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديدًا، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال: «أبشروا فإن الفرج قريب» وقال مجاهد والسدي: هم خزاعة.
ووجه تخصيصهم أنهم هم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير.
ألا ترى إلى قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى الله عليه وسلم:
ثمت أسلمنا قلم ننزع يدًا

وفي آخر الرجز:
وقتلونا ركعا وسجدًا

وإذهاب الغيظ بما نال الكفار من المكروه، وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها، لأنّ شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ.
وقرأ فرقة: ويذهب فعلًا لازمًا غيظ فاعل به.
وقرأ زيد بن علي: كذلك إلا أنه رفع الباء.
وهذه المواعيد كلها وجدت، فكان ذلك دليلًا على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته وبدئ أولًا فيها بما تسبب عن النصر وهو تعذيب الله الكفار وبأيدي المؤمنين وإخزاؤهم، إذا كانت البداءة بما ينال الكفار من الشر هي التي يسر بها المؤمنون، ثم ذكر ما السبب وهو نصر الله المؤمنين على الكافرين، ثم ذكر ما تسبب أيضًا عن النصر من شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظهم تتميمًا للنعم، فذكر ما تسبب عن النصر بالنسبة للكفار، وذكر ما تسبب للمسلمين من الفرح والسرور بإدراك الثأر، ولم يذكر ما نالوه من المغانم والمطاعم، إذ العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة، فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم.
إن الأسود أسود الغاب همتها ** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

وقرأ الجمهور: {ويتوبُ الله} رفعًا، وهو استئناف إخبار بأنّ بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم.
قال الفراء والزجاج وأبو الفتح: وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في قاتلوهم انتهى.
وقرأ زيد بن علي والأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وعمرو بن عبيد وعمر بن قائد وأبو عمرو ويعقوب فيما روي عنهما: {ويتوبَ الله} بنصب الباء، جعله داخلًا في جواب الأمر من طريق المعنى.
قيل: ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء.
قال ابن عطية: ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أنّ التوبة يراد بها أنّ قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال.
وقال غيره: لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جاريًا مجرى التوبة من تلك الكراهة.
وقيل: حصول الكفر وكثرة الأموال لذة تطلب بطريق حرام، فلما حصلت لهم طريق حلال كان ذلك داعيًا لهم إلى التوبة مما تقدم، فصارت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة انتهى.
وهذا الذي قرروه من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة للمؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار، والذي يظهر أنّ ذلك بالنسبة إلى الكفار، فالمعنى على من يشاء من الكفار، وذلك أنّ قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس، وإن لم يكن لهم رغبة في الإسلام، ولا داعية قبل القتال.
ألا ترى إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة كيف كان سببًا لإسلامهم، لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة، وقد يدخل على كره واضطرار، ثم قد تحسن حاله في الإسلام.
ألا ترى إلى عبد الله بن أبي سرح كيف كان حاله أولًا في الإسلام، ثم صار أمره إلى احسن حال ومات أحسن ميتة في السجود في صلاته، وكان من خيار الصحابة؟ والله عليم يعلم ما سيكون مثل ما يعلم ما قد كان، وفي ذلك تقرير لما رتب من تلك الموعيد، وأنها كائنة لا محالة حكيم في تصريف عباده من حال إلى حال على ما تقتضيه حكمته تعالى. اهـ.